حين سقطت بغداد، انتشرت شائعة ظهور «المهدي المنتظر» بين الشعوب العربية، لتجسد حاجة تلك الشعوب إلي قائد ملهم تدعمه قوة إلهية تتجاوز عجزهم عن تغيير الواقع السياسي. وبشكل أو بآخر، تطورت وسائل الميديا العربية لتصمم في كل مرحلة تاريخية نموذجاً (علي مقاس أحلام الشعوب). قائد يتمتع بصفات المهدي المنتظر، وينفذ مشيئة السماء بـ«قرار تاريخي» تصفق له الجماهير دون نقاش أو مراجعة ودون «معارضة»!!
حين قرر الرئيس «السادات» السفر إلي تل أبيب وعقد اتفاقية «كامب ديفيد» كانت ملائكة حرب أكتوبر ترفرف حوله وهو ينفذ تعاليم الأديان الثلاثة ليصبح «بطل الحرب والسلام» !!. ساعتها وجد من يروج لأفكار قائد سياسي «سابق عصره»، حتي لو كان الثمن مقاطعة عربية حادة أو ضياع الحقين الفلسطيني والسوري إلي الآن.
هل عرفتم الآن قيمة الجلوس إلي طاولة المفاوضات؟، هل الدم الفلسطيني المهدر يدفعكم للندم علي الفرصة الذهبية التي أضعتموها حين رفضتم الانصياع لأفكار «السادات»؟إذا كانت الإجابة بنعم، فعليكم أن تستجيبوا لآراء «بطل الديمقراطية» الرئيس الليبي «معمر القذافي»، مع ملاحظة أن هذا اللقب من اختياره وهو من أعلنه أثناء مشاركته عبر الفيديو في ندوة «آفاق من أجل الديمقراطية» التي نظمتها جامعة كولومبيا بنيويورك. وربما كان عليكم أيضا اتباع نموذج الحكم «الجماهيري» الذي أرساه، خاصة بعد أن سقطت نظرية التعددية الحزبية واتضح أن الحكم يؤول غالبا إلي حزب السيد الرئيس.
وبنفس المنطق لابد أن نعيد النظر في عروبتنا السليبة ونفكر في التحول إلي تجمع أفريقي يشعرنا بالتفوق أو علي الأقل يعفينا من الهم العربي.
أنا شخصياً معجبة بتلك الصدمات السياسية التي يحدثها العقيد «معمر القذافي» بدءا من «الكتاب الأخضر» ومرورا بانسحابه من القمم العربية وصولاً إلي التحولات الانقلابية في موقفه من الغرب وخصوصًا أمريكا. لم يعد مكان القصف الأمريكي مزارًا لضيوف ليبيا الآن، كف «الزعيم» الليبي علي تقديمه دليلاً علي صموده في وجه القوي العظمي في العالم ( لاحظ أن ليبيا أيضا جماهيرية عظمي) وحل محل الثأر الليبي - الأمريكي حديث عن دفء في العلاقات بين البلدين، ومشاورات في البنتاجون لدراسة مساعدة ليبيا في تدمير مخزونها من الأسلحة الكيماوية!!
لكن الإدارة الأمريكية مازالت حائرة في تحديد موقفها النهائي من النظام الليبي: فهي تصنف ليبيا كواحدة من حوالي ست دول علي قائمة الولايات المتحدة للدول التي تتهم برعاية الإرهاب، ورغم ذلك تناقش تقديم مساعدات تصل إلي ١٠٠ مليون دولار لتدمير المخزون الليبي من الأسلحة الكيماوية، حفاظاً علي أمنها القومي.
وبينما يرفع «بوش» بعض قيود الصادرات العسكرية لنفس الهدف يطلق العقيد القذافي تصريحات نارية يتحدي فيها الغرب بالسماح للرئيس الأمريكي بالطواف حول الكعبة! وفي إطار حملة لدعوة «اليهود والنصاري» للطواف بالكعبة لا يفوته استعداء الغرب بأكمله علي كل ما هو إسلامي، حين يقرر بشكل قاطع أن الإنجيل مزور وأن «موسي» لو كان موجودًا في عصر «عيسي» لأصبح مسيحياً!
الغريب هنا ليس في كلام العقيد القذافي ولكن في «التعجب» من حديثه، وكأننا لم نعتد منه تلك الصدمات الكهربائية. وبالمثل لا يجوز لنا تحليل التناقض الحاد بين سياسة ليبيا تجاه أمريكا وبين آراء رأس النظام الليبي. لأننا لم نرتق فكريا لفهم نظريات «قائد ملهم» هو قطعا «سابق عصره»، وهو أيضا مؤسس نظريات حديثة في قواعد الديمقراطية وتكتيك التعامل مع الدول العظمي وفنون تربية «العرب» وأساليب قيادة «الأفارقة».
نحن أمام شخصية تاريخية لن نفهم أبعادها إلا بعد عدة قرون. وبعيداً عن «الحالة الليبية» أتحدي إن كان بيننا من يفهم كيف تدار شئون الحكم في بلادنا، أو يعرف نقاط التوازن في علاقاتنا الخارجية.
قطعا العيب ليس في الحكام ولا في أساليب الحكم.. العيب فينا.


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق