هل شعرت يوما بأنك تتألم وحدك في العراء، قدماك مكبلة بقانون الطوارئ، والحكومة تتهددك في أمنك ورزقك، وجحيم الفوضي السياسية يحاصرك؟. تصرخ دون أن يسمعك أحد، تنادي "نواب الأمة" يردون عليك بلغة الإشارة فلا تفهم إن كانوا معك أم عليك؟ هل جربت إحساس "هلع" مواطن تبتلعه سمكة قرش في مياه البحر الأحمر، وحزن أمه أو أرملته حين تتابع أنباء هروب مالك العبارة "ممدوح إسماعيل" بحصانته وأرواح المصريين المعلقة في رقبته وعدة ملايين من دم الشعب؟.
هل ضاع لك حق في دهاليز "الفساد"، أو فقدت وظيفة أو ترقية بسبب "المحسوبية"، إن كنت تعرف تلك المشاعر جيدا فأنت تعرف -بالضرورة- قيمة "القضاء العادل". تعرف أيضا قدسية منصة القضاء والوشاح الأخضر و"القول الفصل" الذي ينطق به القاضي فينقذ بريئاً من قسوة السجن أو يقضي بالقصاص من قاتل.
"العدالة" ليست مجرد فكرة مجردة، بل هي أحد موازين الكون، وحين تجد القاضي يعمل علي خلفية: " العدل أساس الملك" تشعر -رغم المظالم- أن قضاة مصر هم الحصن الآمن وخط الدفاع الأخير عن المواطن والوطن.
أنا شخصيا كنت من أنصار عدم الخلط بين الرقابة القضائية علي الانتخابات وممارسة العمل السياسي بنقد تلك الانتخابات، ورغم أن الحديث عن إصلاح القضاء "تابو" يصعب اختراقه كنت أطالب بربط "استقلال القضاء"بإصلاحه. وعقب حرب التصريحات التي قادها بعض القضاة لكشف تزوير الانتخابات النيابية من خلال المنابر الإعلامية كتبت -في نفس المكان- أطالب القضاة بالعودة إلي ثكناتهم.لكنني فجأة شعرت بأن سمك القرش يبتلعني، وبأنني أذوب في ملوحة التعنت السياسي الذي تمارسه الدولة، أغرق في دوامة لا تنتهي من التصريحات عن إصلاح "مجهض" و"ديمقراطية" مشوهة لا تفي إلا بمصالح حفنة محدودة من النخبة الحاكمة!
تذكرت حقوقي المدنية التي تاهت بين أروقة المحاكم لبطء عملية التقاضي (وأسباب أخري محظور الحديث عنها)، وتذكرت القوانين المعيبة التي مازالت المحاكم تنفذ أحكامها، لكنني تأملت فكرة "الحرية" الأشمل من بعض الأضرار المحدودة، توقفت أمام وقفة القضاة المهيبة اعتراضا علي تأخر صدور قانون استقلال السلطة القضائية، فشعرت بأنني ربما أختلف مع بعض مطالبهم أو أميل قليلا للرأي القائل إن استقلالهم التام قد يجعل منهم دولة داخل الدولة وتساءلت: تري كم دولة لدينا الآن؟. تستطيع أن تقول -بضمير مرتاح - إن لدينا دولة الفساد ودولة الإخوان وأخيرا تأتي الدولة التي يرأس حكومتها الدكتور نظيف -وفقا للتريب تنازليا - إذن ما الذي يمنع أن يكون لدينا دولة شعارها:"تحقيق العدالة"؟
ما معني أن يحيل المستشار "محمود أبو الليل" وزير العدل المستشارين "هشام البسطويسي" و"محمود مكي" نائبي رئيس محكمة النقض إلي "جلسة صلاحية"؟. هل معني ذلك وأد عملية الحراك السياسي، أم أن المراد من ذلك التمويه علي نواب زوروا إرادة الأمة واغتصبوا حصانة تصلح للقراصنة أكثر مما تصلح لأعضاء مجلس الشعب؟. هل أسقط الدكتور "فتحي سرور" رئيس مجلس الشعب من ذاكرته نواب (البلطجة والتجنيد والمخدرات.. ونواب سميحة)؟، أم أن المجلس الموقر انتقل من خانة "سيد قراره" ليعمل بقانون: "أنا عنيد ومحدش يقدر يلوي دراعي أبداً"!!.
كنا نتحدث عن هيبة القضاء وقدسية أحكامه، ونطالب القضاة بالبعد عن اللعبة السياسية، لكنهم اختاروا - طواعية - الاشتغال بالسياسة لنيل حقوق يرونها عادلة، ولا داعي للمغالطة والزعم بأنهم يتحملون أوزار السياسة لأنهم - في الحقيقة - يدفعون الآن ثمن الدفاع عن الوطن وليس عن حقوقهم. هؤلاء كشفوا تزويرا يعمي العيون المتبجحة، تزويراً سجلته عدسات الفضائيات التي أذاعت فضيحة مصر السياسية علي الهواء، لكن تصريحات القضاة هي ما يزعج الحكومة، والسبب بسيط: "الدولة تريد قضاء مخترقاً"، فإذا أردناه عادلاً ونزيهاً، بدأت بوادر "مذبحة" جديدة للقضاة!

