أهم ما يميز الشعب المصري ـ في نظري ـ هو سياسة: «الرضا بالمقسوم عبادة» تلك التي يواجه بها كل النكبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية أيضا!.يستوردون لنا مبيدات مسرطنة أو ألبان أطفال ملوثة بمواد مشعة.. لا بأس، نحن راضون تماماً بقدرنا، أليس «الرضا» أولي درجات رفع البلاء!. يرضعون فلذات أكبادنا ألباناً فاسدة أو يفسدون أكبادنا ذاتها.. لا بأس أيضا!.
ولأننا أمام قطاع حيوي، كل من ينتمي إليه يسمي «حكيما» فلا يصح أن نتشكك لحظة في ضمائرهم أو نتهمهم بالإهمال الجسيم أو بالاتجار في آلام المرضي وعذاباتهم. الثقة في القطاع الطبي نابعة غالباً من داخلنا، من حالة الهلع التي تتلبسنا أمام مارد المرض فتدفعنا للتعلق بكلمة من فم طبيب تحدد موقفنا ما بين اليأس والرجاء.
جميعنا نسلم مصائرنا للطبيب دون أن نسأل أو نناقش تشخيصه أو روشتة العلاج الذي وصفه، لأننا أمام «الطب» جهلة بدرجة أو بأخري، ومصداقية الطبيب هنا هي طوق النجاة الذي ينتشلنا من حالة العجز ولو مؤقتا!.
لكن إذا كنت من أصحاب التاريخ الطويل مع المرض ـ مثلي ـ قطعاً ستخرج من حالة الإذعان لكل ما يقال لك وتسأل: هل صحيح أن الدم الذي يتلقاه المريض بريء من نقل الفيروسات الكبدية والإيدز؟ لا أعتقد، لأن هذا معناه أن الدولة تدعم اللتر الواحد بحوالي خمسمائة جنيه للفحوصات وحدها، وهي فكرة خيالية، خاصة إذا علمنا أن معظم المستشفيات تطلب التبرع بالدم من أهالي ضحايا الحوادث أو من يحتاجون لنقل دم عاجل.
وإذا كانت الدولة تدعم بنوك الدم بتلك الأموال الطائلة لماذا لا تعقم أجهزة الغسيل الكلوي الملوثة بلعن الفيروسات، فمن يخضع لجلسة غسيل يخرج بفيروس، أو لا يخرج إلا علي ظهره!. فإذا أفترضنا ـ علي سبيل التفاؤل ـ أن الدولة معنية بصحة المواطن فلابد أن نسأل: لماذا تحول المواطن إلي «فأر تجارب»، يتعاطي آلاف الحبات من أدوية محظورة منعت منظمة الصحة العالمية تداولها: «مثل دواء الأنفلونزا نايت آند داي، ودواء موبيك الذي تم سحبه من الأسواق مؤخرا!».
أين «الحقيقة» في وقائع الإهمال الجسيم في غرفة العمليات؟، لماذا تحولت أخطاء الأطباء من ترك فوطة أو مشرط في بطن المريض إلي فقء العين أو بتر اليد أو الشلل التام أو الغيبوبة حتي الموت؟. هل لدي وزير الصحة الدكتور «حاتم الجبلي» القادم من بين صفوف المستشفيات الاستثمارية أجوبة لهذه الأسئلة؟. هل يستطيع أن يبرر لنا الحرب الضروس بين شركات الأدوية حول علاج فيروسC بين الترويج للحبة الصفراء أو لعقار الإنترفيرون أو لأعشاب الدكتور عبد الباسط.. أليس هذا اتجاراً في آلام البشر!. مَن الملوم في أخطاء التخدير الخطيرة، هل المريض الذي لا يعرف معني تداعيات تلك اللحظة التي يفقد فيها الوعي لتتأرجح روحه بين الموت والحياة؟ أم الطبيب الذي لم يكتشف حالته الصحية ليتجنب مضاعفات قد تودي بحياة المريض؟!.
ربما لا يعلم وزير الصحة الجديد ـ بحكم ممارسته الطب في أرقي المستشفيات الاستثمارية ـ أن المستشفيات الحكومية تطلب من المريض ـ أحياناً ـ شراء الشاش والمستلزمات الطبية علي نفقته الخاصة. لكن المؤكد أنه يعلم تماماً الفرق الشاسع بين الفندقة السبع نجوم في مستشفيات المرضي السوبر ومستشفيات «الناس الغلابة»، ويعلم أيضا أن مظلة التأمين الصحي خدعة، وأن جميع الأمراض المستعصية التي تحتاج آلاف الجنيهات لعلاجها خارج مشاريع العلاج التي تكفلها النقابات وأولاها نقابة الصحفيين التي أنتمي اليها. أعلم أن الدكتور الجبلي ليس مسؤولا عن تاريخ العبث بأرواح الناس، لكنني أسأله: إلي متي سيستمر هذا المسلسل العبثي؟. أين الخلل: «هل في تدريب الأطباء، أم قلة رواتبهم الحكومية، أم في انشغال الأساتذة بتكوين الثروات قبل تنمية العقول والمدارس الطبية؟». الحقيقة لا أتوقع إجابة شافية من أحد.. لا أنتظر إلا مزيداً من الضحايا التعساء الذين يسخرون سراً من قَسم «أبو قراط» ولسان حالهم يقول «إن خطأ الطبيب يعادل القتل العمد»، يتوقعون أن تباشر نقابة الأطباء دورها في محاسبة المخطئ، وينتظرون «رحمة السماء» بكل صبر ورضا، لتحررهم من آلامهم.. ولو بالموت.



