الصمت.. أضعف الإيمان! .. نشرت فى 9 / 12 / 2005


"العدالة" ليست مجرد قيمة روحية مجردة نتغني بها، بل هي أحد موازين الكون. إذا اختلت اختل معها الكون بأكمله، وإذا فتحت عينيها فقدت حيادها وموضوعيتها.
صحيح أنها تحتل أعلي المراتب السامية في منظومة الأخلاق، لكن تحولها من مجرد "فكرة" إلي واقع لا ينتقص من قدسيتها، وتلك القدسية تنتقل بالتبعية للشخص المنوط به تحقيقها وأعني به "الحاكم".. والقاضي أيضا.
فالحاكم يسعي لتطبيق شريعة السماء: "العدل أساس الملك"، وهي مهمة تبدو مستحيلة في زماننا هذا، بينما مهمة القاضي محددة بإطار جغرافي وجماعة إنسانية تشكو إليه ليرفع عنها المظالم. القاضي بشكل أو بآخر هو يد الحاكم الطولي لتحقيق العدالة، فبكلمة واحدة من علي منصة القضاء قد تفقد حريتك أو تسترد حياتك.
ومن هنا.. محظور علي الصحافة التعليق علي أحكام القضاء، فجميعنا نتعامل مع السلطة القضائية باعتبارها الحصن الآمن، وخط الدفاع الأخير عن المواطن والوطن.
فلماذا تبدل الحال مع الإشراف القضائي علي العملية الانتخابية؟! لماذا امتلأت الفضائيات بشكاوي القضاة وتذمرهم وتهديدهم بالانسحاب من الإشراف علي الانتخابات؟ الحقيقة.. لم تفزعني شهادة المستشارة "نهي الزيني" حول تزوير نتيجة الانتخابات ربما لأنها نشرت في جريدة مصرية (المصري اليوم)،
لكن مع توالي ردود الفعل حول شهادتها الصادمة في مختلف وسائل الإعلام العربية والعالمية بدأت أسأل نفسي: هل يجوز لأي قاض أن يفشي "أسرار الدولة" علي القنوات الفضائية، مع التسليم بأن دوافعه هي تحقيق انتخابات نزيهة؟ هل طريق الشفافية يبدأ بالتعريض بالسلطة التنفيذية والحزب الحاكم؟ رغم اختلافي الجذري مع أداء الحزب الوطني وتعنت الأجهزة الأمنية شعرت بأن حق النقد قد يكون مكفولا للصحفيين أو للمشتغلين بالسياسة، أو لمنظمات المجتمع المدني التي تراقب العملية الانتخابية، أما القضاة فمحرومون - هذه المرة - من حق النقد.
لكن بعض رجال القضاء خرجوا عن مسارهم، وأطلقوا تصريحات سياسية صرفة، جعلت دورهم ملتبسا بين الإشراف علي الانتخابات والممارسة السياسية!!. وبعض الخبثاء فسروا الأمر بأن كشف مساوئ السلطة التنفيذية المراد منه تبرير مشروع "استقلال القضاء"، والبعض الآخر استحسن رفض القضاة إتمام عمليات التزوير تحت أنظارهم، أنا شخصيا من الفريق الثاني، لكن هل يتحقق ذلك بإطلاق القذائف من منصات القنوات الفضائية؟ لا أعتقد.
في ساحة المحكمة، يتمتع القاضي بالسلطة المطلقة، لكن في إدارة العملية الانتخابية، هناك توزيع أدوار بين سلطات مختلفة، منها المحافظة و الداخلية وجهات عدة مهمتها جميعا، أن تصل أصوات الناخبين إلي صندوق الاقتراع الذي يكتسب حرمته من إشراف القضاء، لتدخل الأصوات دورة الفرز بين أياد أمينة. وهذا معناه ببساطة أن مهمة القاضي تبدأ بعد عدة مراحل تتولاها أجهزة أخري، لكن نتيجة الخلط بين الأدوار بدأت إنذارات الانسحاب من العملية الانتخابية طالما ظلت الشرطة تحول دون تدفق الناخبين، في وقت متزامن مع المواجهة المحتدمة بين الأمن و البلطجية. واختلطت المطالبة بتحييد الشرطة مع المطالبة بحماية القضاة، وتراجع الحديث عن نزاهة الانتخابات مقابل شهادة بعض القضاة بتزويرها. وتلك الشهادات صدرت عنهم ثم ارتدت إلي صدورهم، فخرج علينا "عصام العريان"، القيادي في جماعة الإخوان المسلمين المحظورة، ليتهم الحكومة باختيار قضاة مشكوك في نزاهتهم لعمليات الفرز! ألم يكن يعلم أحد القضاة الذين صوبوا السهام إلي قلب الوطن، أنهم يسكنون هذا القلب المنهك.. وعليهم الآن أن يضمدوا جراحه بالعودة إلي ثكناتهم أو بالتزام "الصمت" وذلك أضعف الإيمان؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق