نفتح باب "الاجتهاد" أم نعود للنص القرآني ونحتكم إليه ، هذا هو السؤال الذي يحيرني كلما خرج علينا أحد رجال الدين بفتوي جديدة. الفتاوي الدينية تأتي غالبا "صادمة" تثير البلبلة بين الناس، وتتحول أحيانا إلي مشكلات اجتماعية تصعب السيطرة عليها، لذا أجدني مضطرة للوقوف أمامها.
الفتاوي الدينية الآن تنسف القاعدة التي كانت تؤكد أن اختلاف الفقهاء "رحمة" ، ومع الاعتراف بانتشار الأمية الدينية بين الشباب سنجد من يتحايل علي القانون بفتوي عابرة أو حديث "ضعيف" . لتتحول إدارة الشؤون الدنيوية بتلك الفتاوي المبتسرة إلي ملفات لا نهاية لها في المحاكم : "أطفال يبحثون عن هوية ضائعة بين بنود القانون ، ونساء يواجهن منظومة القيم الاجتماعية بحالة "تمرد" لن تحدث التغيير الاجتماعي الذي ننشده" . لذا وجب علينا التعامل مع تلك الفتاوي بحساسية وذكاء اجتماعي، علها تنضم إلي صف تجديد الفكر الديني بدلا من تحولها إلي ذريعة لغلق باب الاجتهاد.
أحدث الفتاوي التي أطلقها المفكر الإسلامي "جمال البنا" جاءت في حوار مع "العربية نت"، فجر خلاله مفاجأة خاصة بالزواج ، حيث قال إن مسألة "الشهود" توثيقية فقط، فيكفي رضا وتوافق الرجل والمرأة علي الزواج لتصبح علاقتهما صحيحة، بشرط وجود النية لاستمرار هذا الزواج وقبول نتائجه المتمثلة في الإنجاب والإقامة في بيت واحد . لكنه حرص علي استثناء العلاقات داخل المدارس والجامعات من هذا الحكم بقوله : "تبقي علاقاتهم التي يسمونها زواجا غير شرعية، لأنه ليس هناك بيت يجمع الزوجين والعلاقة بينهما تغلفها السرية، ولا ضمان لديمومتها، فالقلوب تتغير وقد يخطف قلب الرجل أو الفتاة طرف آخر".وهو تقريبا نفس الرأي الذي أطلقه الدكتور "محمد شحرور" تحت بند ما أسماه "نكاح ملك اليمين" !!.
الأمر المخيف في مثل هذه الفتوي أن الشباب لن يستمعوا لتحريم الوضع الذي يسمونه زواجا شرعيا، بل سينطلقون لإشباع غرائزهم الجنسية الضاغطة علي خلفية الجزء الأول من فتوي "البنا" مع ملاحظة أنه أكد بشكل قاطع أن الزواج هو " عقد رضائي من الدرجة الأولي، فلا شهود ولا مهر ولا ولي، وما حصل في الزواج من هذه الأمور عملية تنظيمية لجأ إليها الفقهاء لاحقا!!".صحيح أنه يؤكد أن الفقهاء رأوا في تلك الإجراءات وجاهتها لحفظ الحقوق من إثبات النسب والميراث وخلافه ، لكنه لا يعتبرها شروطا لصحة الزواج!
وللحقيقة، فإن هناك العديد من آراء "جمال البنا" تلقي صدي طيبا في وجداني لأنها تتفق مع ما نتمناه من تجديد للخطاب الديني، خاصة تأييده لإمامة المرأة للصلاة إذا كانت هي الأعلم بالقرآن، وأيضا آراؤه حول حجاب المرأة وعدم الفصل بين الجنسين الذي يعتبره "عملية وحشية". لكن فتواه حول الزواج في هذه المرة قد تحدث فوضي اجتماعية بين صفوف الشباب الذي يبحث عن غطاء ديني لسلوكياته دون أن يتمسك بباقي التعاليم الدينية التي تحفظ أي سلوك من الأهواء الشخصية . فكان لابد أن نسأل ـ حتي بالنسبة للناضجين من الرجال والنساء ـ هل يتمسكون بقيم الصدق والأمانة؟ هل هم أهل للثقة لتأتمنهم النساء علي حرماتهن فيتقون الله فيهن؟ . للأسف الإجابة التي لدي هي "لا" في أغلب الأحوال.
إن أكثر ما شدني لآراء "جمال البنا" هي الموضوعية التي يتعامل بها مع مصطلح "العلمانية" بإعتباره لا يكفر صاحبه بل يعني فصل الدين عن الدولة ، وربما أيضا رفضه الانضمام لجماعة "الإخوان المسلمين" رغم طلب مؤسسها شقيقه "حسن البنا"، وتحفظاته علي سياسة الجماعة خاصة فيما يتعلق بالمرأة.
لكنني وجدته يتخلي عن حذره تماما وهو يتعامل مع قضايا اجتماعية شائكة لم يتأهل المجتمع بعد للتعامل معها ، وأطلق فتواه حول الزواج دون شهود ولا صداق ولا ولي وكأنه لم يسمع عن ١٤ ألف حالة إثبات نسب تنظرها المحاكم المصرية وحدها. أو كأنه يتعمد إهدار نضال المرأة المصرية لتخرج وثيقة الزواج في صورتها الجديدة التي تحدد حقوق وواجبات الطرفين درءاً للمشكلات الاجتماعية . لكنه يعود ليطرح وجهة نظر ربما تسرق الأنظار ـ لوجاهتها ـ من صدمة الزواج دون قيد أو شرط إلا التراضي ، البنا يؤكد أن" طلاق الرجل لا يقع منفردا بدون موافقة زوجته" .. فطالما تم الزواج بصفة رضائية، فلذلك تقتضي صحة الطلاق رضا الاثنين واتفاقهما علي الانفصال.
أعلم أن بعض الفقهاء سيتسارعون للرد علي فتاوي "البنا" ، وأتمني عليهم أن يتوقفوا طويلا أمام فتوي الطلاق لأنها قد تعيد لمؤسسة الزواج احترامها وقدسيتها ، لكنها للأسف فتوي غير جاذبة للأضواء الإعلامية فلن يلتفت إليها أحد رغم أهميتها!


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق