صناعة الجوع !! ... نشرت بتاريخ 1 / 12 / 2006

أحيانا أضطر لتصديق الحكومة، أشعر بأنها لم تعد تملك إلا حكمة العجائز أو يأس الأرامل، وأنها تهيئنا لاستقبال الكوارث بعجز كامل. أنا لا أثق في التصريحات الوردية، لا تخدرني وعود الرخاء التي تطلقها الحكومة من مباخر أشبه بمباخر الدجالين والمشعوذين

. لكنني أتوقف فقط عندما تكون التصريحات من عينة «مرض أنفلونزا الطيور توطن في مصر»، ساعتها أدرك أن وزير الصحة الدكتور «حاتم الجبلي» يخلع المسؤولية من رقبته ليعلقها في رقابنا جميعا. فالحكومة لا تعرف الشفافية إلا في «التخلي» عن التزاماتها.


ولابد لمثل هذا التصريح أن يمر مرور الكرام، فالناس تأقلمت مع أنفلونزا الطيور، تجاوزت حتي التفكير في احتمال انتشار الوباء بين البشر. فهناك كوارث أكبر تتحكم في مصيرهم، الناس مهمومة باحتكار سوق «الفول» وجنون سعر البصل.

«الحمي القلاعية» آخر ما يشغلهم، فهم أبعد ما يكون عن محل الجزارة المدجج بيافطات تتجاوز الستين جنيها!. الشعب أقلع من زمن عن التعامل مع البروتين الحيواني، فلا أنفلونزا الطيور تزعجهم، ولا استيراد اللحوم والأسماك المجمدة يحفزهم للوقوف في طوابير الانتظار. ولمن لا يعلم مازالت في مصر أسر تحسب قيمة الوجبة الغذائية بالقرش قبل الجنيه!.


هذا القطاع العريض من الشعب «الأغلبية» تعرض لعملية تصفية متعمدة، تمت بكل احتراف علي مراحل متلاحقة.


اكتشفت الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة أن «مجانية التعليم» مجرد «خدعة»، وأنهم إما واقعون في أسر الدروس الخصوصية أو متطلعون إلي المدارس الأجنبية والجامعات الخاصة، فتلك طبقة ما زالت تتمسك بالتعليم كوسيلة للحراك الاجتماعي، المهم أن معظم الأسر اتفقت - ضمنيا - علي أن تقتطع من رغيف الخبر ما يكفي لتكلفة التعليم. دون أن يعي أحد أن التعليم «المجاني» أكذوبة لا توظف خريجا، ولا تستر صبية!.


لكن من يسمونهم «كذبا أو خطأ» محدودي الدخل لم يتوقفوا لحظة عن متابعة تصريحات الحكومة وهي تسلبهم وجودهم شيئا فشيئاً: الحكومة تبيعهم علنا وتخصخص الخدمات والمرافق الحيوية.


لم يتطوع أحد لنجدتهم، حتي رجال الأعمال ممن يزعمون ريادة العمل الاجتماعي تفننوا في بيزنس المستشفيات الخاصة، والجامعات الخاصة، وبناء المدن السكنية الفاخرة. إنهم يردون الدين لمصر بطريقتهم الخاصة: «توظيف أبناء الكبار، ودفع الرشاوي والمحسوبيات، وإنعاش شركات السياحة بالحج السريع».


ما يحدث في مصر الآن يبدو وكأنه مؤامرة لتجويع الشعب. 
لقد سلبونا إنسانيتنا حين اغتصبوا منا حقوق المواطنة، فكيف تتحدث البطون الخاوية عن ثقافة حقوق الإنسان؟، كيف تستبدل الرغبة في «الستر» بالحديث عن تعديل الدستور؟.


مصر لم تعد فيها أرض عفية، ولا أطفال أصحاء، حتي دم الشباب ملوث إما بالتطرف أو المخدرات. وحين هانت مصر هان شعبها. 
مصر انحنت للكبار الذين «كوشوا» علي ثرواتها، انحنت كصفصافة حنون حتي تمر العاصفة، لكن العاصفة أكلت الأخصر واليابس، وسممت الهواء، ولوثت المياه، ونشرت بيننا الأوبئة.


إنه زمن الأوبئة من كل نوع،الفساد والإرهاب، الغلاء والجريمة، الديكتاتورية والظلم. والآن ينبئنا وزير الزراعة «أمين أباظة» بأن «الحكومة أعدت برنامجا لمواجهة وباء أنفلونزا الطيور بين البشر في حالة حدوثه»!!.


الحكومة لم تضع في برنامجها تصنيع «الفاكسين» المضاد للمرض، إن الصناعة الوحيدة التي أفلحت فيها حكومات مصر المتعاقبة هي «صناعة الجوع».


ابحثوا عن معايير الجودة في أجهزة الغسيل الكلوي الملوثة بفيروس الإيدز، وأمصال الأطفال منتهية الصلاحية. ابحثوا عن قانون مكافحة الاحتكار قبل أن تفتشوا عن «السوس» في طبق الفول، وانتظروا المنتج الحكومي الأخير من «صناعة الموت»!!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق