السياسة قبل العبادة أحيانا!!- نشرت بتاريخ 8 / 12 / 2006

«اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان»، تلك الجملة التي انطلقت من أعلي أحد المنابر العربية كانت كفيلة بإثارة مشاعر المصلين. لم تكن سني - آنذاك - تسمح بفهم تلك الصيحة التي ألهبت عيون الجميع بدموع غزيرة. أعترف أنني بكيت معهم، فالمشهد كما بدا لي كان عملية إبادة جماعية للمسلمين. لم أدرك ساعتها أن مراكز العبادة تتحول تدريجياً إلي مؤسسات سياسية، وأن العائدين من أفغانستان قنبلة موجهة للحكومات العربية التي تم تكفيرها!

وفي بداية التسعينات تقريباً قدر لي الدخول إلي مؤسسة دينية متكاملة، وفي مسجد «المواساة» بالإسكندرية التقيت الشيخ «ياسين رشدي»، وطاف بي علي مركز الترجمة الذي يراسل معظم دول العالم، ويهديهم ترجمات للقرآن الكريم، ثم ذهبت إلي لجنة الزكاة فرأيت مقومات «دولة» حقيقية تعول الأسر الفقيرة وتوفر العلاج لغير القادرين بل وتوفر لمن تحتاج حالته العلاج بالخارج!!

سألت الشيخ «ياسين»: من أين لك بتلك الأموال؟ أجابني بإجابة غريبة: «أنا أموالي في جيوب الناس.. حين أبدأ حملة تبرعات تهب الإسكندرية بأكملها لإنجازها».

إذن الرجل تحول إلي «كاريزما» تحرك الجماهير بخطبته الأسبوعية، وينجز ما تعجز عنه الدولة. وكان «ياسين رشدي» يتجنب الأضواء، خشية أن تحرقه. لكن السؤال الذي ظل يلاحقني: ماذا لو خرج هذا الداعية علي جمهور المصلين صبيحة الانتخابات، وأشار لهم علي مرشح بعينه؟، ألن تكون الإسكندرية «طيعة» لصاحب تلك المؤسسة!

انتهت ظاهرة الشيخ «ياسين رشدي» بحادث مروع، قالوا - ساعتها - إن «مختلاً عقلياً» طعنه طعنات نافذة بأداة حادة، اختفت أخباره، وردد البعض وجود مؤامرة من الأمن (كما جرت العادة) لتحجيمه.

لم يكن «ياسين رشدي» يعمل بالسياسة بمعناها المباشر، لكنه خلق دولة بديلة للدولة القائمة، وأتصور أن التعليم والكساء والعلاج هي في حقيقتها أدوار سياسية تسيطر علي الشارع بقبضة دينية قوية.

الآن تذكرت الحادث الذي أغلق ملف «ياسين رشدي» بختم «طعنة من مختل عقليا»، تذكرت المتهم - البريء في أحداث بني مزار، وكل مختل يغلق الملفات الأمنية.

لكن الأهم من ذلك هو سبب ظهور الخلل العقلي في أماكن العبادة، وتهديد أحد المصلين لإمام المسجد بـ«مطواة». هل السبب هو بعد المساجد عن هموم الناس وانشغال الأئمة بقضايا سياسية أو «تحريضية»؟، أم أن المسجد لم يعد يوفر للناس السكينة؟!

المتهم بمحاولة الاعتداء علي إمام مسجد الإمام الحسين كان يطلب من الشيخ «السعيد محمد» التحدث عن هموم الناس، كان يشكو له حالة والدته المريضة، أتصور أنه كان ينشد بعض الطمأنينة من رجل الدين، كان يبحث عن روح ضائعة في آية قرآنية تعزيه وتهدئ من روعه. لكنه بكل أسف أخذ تأشيرة اللجوء إلي الجنون، ربما يرتاح ضميره تجاه أمه المريضة (فليس علي المريض حرج)!

كل ما فعلته وزارة الأوقاف تجاه تلك الحادثة هو المطالبة بتعزيز التواجد الأمني في المساجد. لم يتوقف وزير الأوقاف أمام مستوي الدعاة (هذا ليس طعنا في كفاءة أحد)، لم يراجع دور المسجد.

لم ير أحد في المتهم «محمد عبدالقادر» سوي صورة المختل عقلياً، دون أن نسأل: هل فقد توازنه النفسي والإمام يتحدث عن فريضة الحج التي وصلت تكلفتها إلي سبعين ألف جنيه (للأغنياء فقط)؟ أم استفزه مجمتع يضاعف من إحساسه بالعجز حيال والدته المريضة؟

كنت أتمني أن أجد منصفاً واحداً من أصحاب المليارات (التي تعرف قلوبهم الرحمة أحياناً) أن يكفر عن قسوة المجتمع، ويبادر لعلاج والدة «المختل»، لكن الخلل ظاهرة عامة تشمل كل المعايير السياسية والاجتماعية والإنسانية.

لتدخل قوات الأمن إلي المساجد حماية للأئمة، لكن من يحمينا من بعض الآراء المتطرفة، وحملات الترهيب التي تطلقها المنابر، والمظاهرات التي ترفع المصاحف وتزحف للشارع بعد الصلاة؟

أنا لا أنتظر إجابة لتلك الأسئلة، بل أتوقع حملة تكفير تنطلق من أي منبر ديني أو إعلامي أو سياسي!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق