رحم للإيجار ! .. المقال نشر بتاريخ 16 / 3 / 2007

ما أرخص الإنسان في هذا البلد! إن سعره لا يتعدي جنيهات قليلة في سوق الانتخابات، ولا يتجاوز خانة الصفرين في وظائف الحكومة التي تتستر علي البطالة. المواطن يسكن خانة الآلاف فقط إذا دخل تابوت ضحايا عبارات الموت، أو تبددت جثته علي قضبان السكك الحديدية.

(٥ آلاف جنيه للمتوفي وألف جنيه للمصاب)، إنه الختم المنحوت علي مقابر الصدقة والمجهولين !.

لكن «قانون الفقر» رفع سعر الإنسان في مزاد قطع الغيار البشرية! فلديه قطع كفيلة بشراء الحياة (لمن يملك).. فص من الكبد أو كلي قد يغير ملامح الواقع التعس، الفقراء لا يعرفون «التبرع بالأعضاء» ربما لأنهم لم يدركوا من قيمة الحياة إلا الشقاء ولعنة الاستمرار، «لتر الدم» في قاموس الفقراء يساوي زجاجة حليب للصغار أو كيلو لحمة، وأحيانا علبة دواء.

إذا نظرت إلي تزايد معدلات الفقر بشكل موضوعي، ستجد نفسك في مواجهة الحكومة التي خصخصت حتي الوزارة لصالح رجال الأعمال، ستجد بين يديك تقارير هائلة عن الفساد وسوء الإدارة ونهب أموال البنوك، وتفصيل السياسيات الاقتصادية علي مقاس شلة المنتفعين.

المدهش أنك ستجد عدة أسماء مصرية بين مليارديرات العالم، يحدثونك دائما عن فرص العمل التي يوفرونها لشباب مصر، وعن دورهم في تنمية المجتمع، ورعاية البحث العلمي والأرامل واليتامي وذوي الإحتياجات الخاصة.. إلخ. ستجد مقالات تهلل لما يسمي «الرأسمالية الوطنية»، ومقالات أخري تلعن زواج السلطة بالثروة، ستجر إلي إحصاءات رسمية مستفزة عن غد واعد بالرخاء !!.

«الفقر» لا يحتاج إحصاءات، بل يحتاج حساً إنسانياً لفهمه واستيعابه، لست مضطرا لدخول متاهة تعديل الدستور لتحقيق العدالة والمساواة لتفهم آلام الفقراء.. فقط تحتاج إلي «قلب» يحتوي الضعف الإنساني.

قلب يفهم إعلانا منشوراً علي الإنترنت لشابة تبلغ التاسعة والعشرين، تعلن عن رغبتها في تأجير رحمها مقابل خمسة عشر ألف جنيه للحمل الواحد (٢٥٠٠ دولار) ونفقة ثلاثمائة جنيه عن كل شهر حمل!!.

الغريب ليس في طريقة تسويق الأرحام للإيجار، ولا في الفتاوي الدينية التي تجرّم تأجير الأرحام، ولا حتي في تناقض الآراء الطبية التي تتراوح بين اكتساب الصفات الجينية من الأم الحاضنة من عدمه.

لكن المفزع أننا لم نسأل: ما الذي اضطر تلك المرأة لعرض رحمها للإيجار؟! إنها أم لولدين تعرف معني الحبل السري الموصول بين الأم ووليدها، ورغم ذلك قررت أن تؤجر رحمها لمن يدفع الثمن ؟.

هذا الخبر هزني بعنف، ذكّرني بكلاسيكيات السينما المصرية التي تروي قصص أمهات يبعن أطفالهن ليطعمن باقي الأسرة.. تلك الروايات التي أصبحت واقعا معاشا نتابعه.. دون أن يهتز لنا جفن.

وكأن «الفقر» خلق سوقا جديدة لا تحتكم للأخلاق ولا تعترف حتي بغريزة الأمومة.. سوقاً ينظمها قانون: (لو كان الفقر رجلا لقتلته)، فيقتل الفقر الكامن بين الضلوع بانتحار جزئي، يدفن خلاله عضوا يمد الحياة في جسد آخر، ليصدر شهادة وفاة للدولة بمعناها السياسي وجدوي وجودها الاقتصادي.

في ذلك العالم المغلق علي جراح الشرف المراق علي (عشش الصفيح).. لا أحد يتحدث عن زنا المحارم، أو الإدمان، أو تجارة الممنوعات.. ما نطنطع ونسميه إنحرافاً سلوكياً أو جرائم أو حتي «تطرف» ليس سوي «أسلوب حياة»، أو بالأدق محاولة يائسة للانضمام إلي قوائم الأحياء، في مجتمع يرفع شعار: «الموت للفقراء»!!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق