العطار».. بضاعة رخيصة! - المقال نشر بتاريخ 9 / 2 / 2007

هناك أنواع من «الحب» تصل إلي درجة الإيمان، لا تخضع لمقاييس الأخذ والعطاء، إنها مشاعر «مقدسة» تتجاوز القدرة علي التفسير.

هو حب لا تدري متي ولد بداخلك، علي الأرجح أنه ولد معك.

حب تدركه طيلة الوقت، تصافحه في سمرة الوجوه المتعبة، تشتم رائحته في عرق الكادحين.

حب تلعنه حين تختنق في إشارات المرور والمواكب الرسمية، ثم تسترده سريعاً مع نسمة حنون علي كورنيش النيل!

قد يحاصرك في زنزانة ضيقة لأنك فكرت، أو كتبت، أو تظاهرت، لكنك تعيشه شعرا حتي لو مت ألف مرة.

ربما تهرب منه، وتضبط نفسك متلبسًا بفكرة «الهجرة»، لكن سرعان ما تتوه في زحامه مخدرًا بآلامه، تنتظر أن يتحرر بك غدًا، أن تتحرر معه، لكن الغد لا يأتي إلا بمزيد من القهر.

تسكنه بإرادتك، ويسكنك رغما عنك، إنها حالة من الذوبان تسمي: «عشق الوطن». حالة تختلط فيها أصوات الباعة الجائلين بالشحاذين بالمتظاهرين. حلقة مفرغة تطوقك بقضايا الفساد، ولعنة الفيروسات،وخطر السفاحين والمهووسين جنسيا أو سياسيا. لايهم يكفيك أن تهرب في النهاية لضحكة طفل بريئة.

لا تفكر في موقع «الطفل»، عله ينتظر جرعة علاج كيمائي في طابور طويل لمرضي السرطان، أو أنه أحد أطفال الشوارع المتسربين من التعليم، أو -في أفضل الأحوال - ينتظر عودة أمه برغيف ساخن (بنار الفرن). هو في النهاية مجرد طفل يجسد حرمانك بالأمس وربما يفلت من معاناتك اليوم.

مهما كنت محبطا ستجد في هذا البلد صبية تحلم بفارس يخطفها من قوائم العنوسة، وشاباً يطالع أهرام الجمعة بحثا عن فرصة عمل أضيق من ثقب إبرة. ستجد المحال مازالت تبيع دبل الخطوبة وشموع السبوع، في الوقت الذي تندد فيه منظمات حقوق الإنسان بالتعذيب والاعتقالات، وستجد -دائمًا - جدلاً لا ينتهي حول الإصلاح السياسي.

لا تسأل عن حقوق المواطنة لأنها مجرد مادة في الدستور، لن تهبك قرض إسكان ولا حتي «بطانية بالية» في عز طوبة، لكن بما أنك «أنت» موضوع المناقشة «فليعلو» صوتك (قبل أن تبتلع لسانك). تكلم الآن عن المساواة بين عنصري الأمة، أو جامل المرأة بمزيد من الحقوق السياسية.

الديقراطية لن ترقي لمستوي الممارسة، فيكفي أن تتكلم ليقال أنك «ديمقراطي».

أنت في قلب هذه الفوضي «موجود»، صحيح (ماشي جنب الحيط)، تطالع بالصدفة مانشيتات الصحف فتقرأ عن استبداد الحزب الحاكم، وتخبط أحزاب المعارضة، و ملاحقة الإخوان المسملين. علي أرض الواقع أنت خارج تلك الخريطة المرتبكة في عالم مغلق علي همك الخاص، لكنك مازلت هنا، لم تهرب إلي جحيم الخيانة مهما بلغ بك السخط !!.

حتي لو كنت علي حافة الكراهية فمازال حبلك السري موصولاً بهذا البلد !. لأنك لم تسقط بعد، لم تكفر بعد، لم تبع شرف أبيك مقابل حفنة دولارات.

الخروج من المجال العاطفي قد يصبح - أحيانا - عنوانا للضياع، رحلة الضياع قد تكون مدخلك لعالم الإرهاب أو الجريمة، وفي حالات استثناية قد تقودك إلي بؤرة الخيانة. أبشع أنواع الخيانة تلك التي تبدأ بفيروس قاتل للضمير الوطني يقضي علي خلايا الانتماء، فيروس يدمر جينات الحنين الغريزي لحضن الأم، إنه فيروس «السقوط» في شبكة جاسوسية.

هكذا مات الإنسان «محمد عصام العطار» ووُلِدَ الجاسوس «جورج» أو «كوهين» الأسماء لا تهم، المهم أن هناك مواطناً مصرياً سقط في شباك الموساد المنصوبة لكل من يتجاوز الحدود. لم يكن «جورج» يبحث عن لؤلؤة مخبأة في محارة الغربة، بل كان هاربا من ديون الاستهتار والعبث.

كان مثل آلاف الشباب الذين يقايضون الزواج من إسرائيلية بالهوية المصرية طمعا في فرصة عمل وإقامة في قلب تل أبيب، واحدًا ممن لا يعرفون ثمن الوطن إلا عند «البيع»!

لكن «جورج» لم يلق بنفسه علي ضفاف شواطئ أوروبا أو يقع تحت سطوة أي كفيل عربي، فقد قرر أن يبيع بأعلي سعر أسرار الوطن للأعداء.

وبعد عدة سنوات في نعيم كندا وخلايا الشذوذ والمجون والتجسس مطلوب منا أن نتقبل دفاع الأم أو الخال، أن نرفع عنه صفة جاسوس وننتظر ربما يكون مجنيا عليه !!

قد يكون في قلب أمه متسعا للمغفرة لأنها مازالت مصرية، لكن قاموس الوطنية لا يتسع للخونة.

في المشهد الختامي لفيلم «إعدام ميت» تم إعدام الجاسوس بيد أبيه، والآن يتمني الأب «العطار» أن يشنق ابنه بيده لو ثبت أنه جاسوس.

امنحوه هذا «الشرف» ليمحي عاره، ويرفع رأسه بين أبناء وطنه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق