| قبل عدة أشهر كنت أقلب صفحات موقع «العربية نت» كعادتي، توقفت للحظة وتشككت في بصري، ثم عدت لأقرأ الخبر المروع بصوت مرتفع علني أصدقه: «فاجأ شاب سعودي في الـ ٢٨ من عمره المصلين في الجامع الكبير بمحافظة خميس مشيط في منطقة عسير، بمخاطبتهم بعد صلاة الفجر، ثم عمد إلي نزع ملابسه وقطع عضوه التناسلي أمامهم»!!. وبقدر ما كان الخبر صادما ومؤلما بدا لي غامضا، لكن التفسير جاء علي لسان الشاب السعودي الذي طالب المصلين بالخشوع في الصلاة، و«قطع كل جزء من الجسم يتحرك وقت الصلاة»!. أحسست بأن الواقعة أعادتني إلي كهف بدائي لايزال الإنسان يتخبط فيه حول ماهية الله، ويتفنن في وسائل التقرب إليه، وإراقة الدماء تحت أقدام الأوثان. حاولت أن أخرج من حالة الذهول بتفسير عقلاني مقتضب يختصر القصة (وهي الثانية من نوعها في نفس المسجد) في أن الشاب مريض نفسي، يعاني من صراع حاد بين شهواته والتزامه الديني، لكنني لم أفلح في التخلص من الإحساس بالمشاركة في خلق المناخ العام الذي جعلنا جميعا نعاني نفسيا بدرجات متفاوتة. حاسبت نفسي ساعتها علي إباحية بعض الكليبات الساخنة، وحاسبت الأفكار الرجعية المتشددة التي تطلقها فضائيات متخصصة في «الترهيب»، وغرس بذور التطرف في عقول الشباب. ثم بكيت، نعم بكيت علي الشباب العربي الذي يقف حائرا علي حد السيف الفاصل بين «الحرية» وأغلال «الكبت الديني والسياسي». الشباب التائه في جدل لا ينتهي حول شرعية النقاب وحتمية تغيير الدستور!. وبدأت أكرر(بكل بلاهة) نفس الأسئلة التي نوجهها عادة للحكام: «لماذا يحاصر الفقر شبابنا في مساحة من «الزهد»، أو يدفع به إلي ساحة «الجنون» ليبتر أعضاءه التناسلية ؟. لماذا يغتصب «الفساد» بلادنا ليل نهار دون أن يخرج من بيننا صوت واحد يحدثنا عن الشرف أو الفضيلة ؟. لماذا يغرقنا الإعلام العربي في فوضي الحواس وحمي الاستهلاك دون أن يقدم لنا قدوة روحية أو سياسية ؟. لماذا تفرغ الدعاة الجدد لـ«تفسير الأحلام» وشرح علامات ظهور «المهدي المنتظر» واقتصر دورهم علي هداية شكلية لا تعمر وجداناً ولا تبني ضميراً؟». لماذا نطرح أسئلة كثيرة.. دون مجيب، وكأننا نصرخ في الصحراء، أو أن مسا من الجن أصابنا بلعنة الوعي والتفكير، لتتحول حواسنا جميعها إلي مصادر ألم كلما سمعنا خبرا أو رأينا خطأ أو لمسنا جرحا نازفا؟. هذا الشاب السعودي الذي ذبح رجولته علي الملأ كان يوجه رسالة غضب للجميع، ربما لم يجد الإشباع الجنسي الذي يجعله يصل لحالة صفاء نفسي أثناء الصلاة، أو عله عاني التمزق بين التزامه بعلاقة الزواج والتردد علي المسجد بينما هناك جزء بيولوجي يتمرد عليه، ويرفض قيود القمع والحرمان. المهم أنه - في كل الأحوال - تطابق مع نفسه في لحظة جنون وقرر أن يكون «نفسه» حتي لو بدا للآخرين مجنونا. هل المطلوب أن نجن جميعا لندرك أبعاد حالة «السعار الجنسي» التي اجتاحت وسط البلد في عيد الفطر؟. أم المطلوب أن نتستر علي أنفسنا بعبارات تكذيب أو جمل مواساة من عينة: «مصر بلد الأمن والأمان»، وهذه «فئة ضالة» من الشباب؟. مازلت أسير في خط أسئلة لا نهاية له: أليس «السلام الاجتماعي» محصلة لقيم العدالة والمساواة !. أم أن البلاد تصان فقط بأمن الدولة والأمن الجنائي ؟. وحتي الأمن الجنائي أصبح تحقيقه مستحيلا،فالواقع يؤكد أن من تتعرض للتحرش الجنسي تهرب من تسجيل اسمها في محضر شرطة، وأن من يتعرض لمهانة الضرب أو للسرقة يبتلع خسارته خشية متاهة الدخول إلي أقسام الشرطة. لقد وصلنا إذن إلي نهاية النفق المظلم: المواطن محروم من حقوق المواطنة، معزول عن حكامه، أخرس لا يعبر عن همومه، أعمي لا يري مستقبله، وأذناه من طين وعجين مخلوط في (معجنة التصريحات الحكومية). الآن في نهاية النفق: الهواء فاسد، والمياه ملوثة، والطعام شحيح، والأمل مفقود. الصراع سيد الموقف في مجتمع منقسم علي نفسه، يعاني صراعا طبقيا حادا، وعدم تكيف بين مواطنيه، مجتمع ينزع ملابس المرأة دون رحمة، يعريها، يفرغ غضبه المكبوت في لحظة شبق عابرة، يمزق «ستر المرأة» ليكشف قبح الوطن. الرجل الذي ينتهك حرمة (بنت بلده) بدلاً من حماية شرفها هو رجل منتهك أصلا، فبتر الرجولة لا يتم بالسكين وحده، بل يتم أحيانا بالفقر والفساد والقهر السياسي. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق